الكرم و الشعر (ومضة في الأدب العربي )

وأكرم الخلق هو محمد بن عبد الله ، وكل قصص الكرم التي تشيب الشعر تصبح قصصا عادية مقارنة بكرم النبي عليه الصلاة والسلام ، ويليه في الكرم أهل بيته فالحسن والحسين كانا من أكرم الناس كأبيهم وعبدالله بن جعفر الطيار وزين العابدين ،جميعهم (ال البيت) ضربوا اروع الأمثلة في الكرم والسخاء.. فسبحان الله دائما نجد الكرم في بيت النبوة عظيما وكبيرا، والكرم يجب يكون في النفس قبل أن يكون في المال وإلا فإن البعض يظهر كرمه لأجل الرياء أو لأجل أن يحصل على مبتغاه،فهذا قد يكون كريما بماله ولكنه شحيح في نفسه.

ويُقال أنه كان هناك رجلٌ اسمه المحلّق من بني كلاب وكان له ثمانية بنات لم يتزوجن لأن المحلق كان بخيلا،فإذا أتى رجل يسأل عن المحلق قالت له الناس إنه رجل بخيل فينفر الرجل من أن يُناسب ويتزوج من هذه الأسرة.ومرة من المرات مر الشاعر الاعشى من بني كلاب فتاضفته الناس ورحبوا به، وبلغ الخبر زوجة المحلق،فقالت لزوجها ما رأيك أن تذبح للشاعر الأعشى ناقتك وتكرمه فيقول فيك شعرا فيمسح ذلك تاريخ بُخلك فتتزوج بناتك،فطاوها المحلق وعزم الأعشى فنحر له ناقته، ثم سقاه ، وأحاطت بناته به يغمزنه ويمسحنه. فقال : ما هذه الجواري حولي؟ قال : بنات أخيك المحلق وهن ثمانٍ شريدتهن قليلة. فخرج الشاعر الاعشى من عنده ولم يقل فيه شيئاً. فلما وصل سوق عكاظ إذا هو بسرحةٍ قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى ينشدهم قصيدة مطلعها :

  أرِقتُ  وما هذا السهاد المؤرّقُ

 وما  بِيَ  مِنْ  سقمٍ  وما  بيَ    مَعْشَقُ

وما لبثت القصيدة أن انتشرت بين العرب وسارت بها الركبان، وما مضى على بنات المحلق شهر إلا وقد تزوجن كلهن من شيوخ وفرسان العرب ، وبذلك اشتهر المحلق بين العرب بالكرم وقرى الضيف بسبب تلك القصيدة .

والقصيدة طويلة ، إنتقيت لكم منها ما يخص قصتنا وهي : 

لعمري   لقد   لاحت   عيونٌ  كثيرةٌ

   إلى  ضوء   نارٍ  في   يفاعٍ   تَحَرّقُ

تشبُّ لمقرورين يصطليانها

وبات  على النار الندى والمحلَّقُ

ترى الجود يجري ظاهراً  فوق  وجههِ

كما زان متن الهندواني رونقُ

شرح البيت الأول والثاني: والله لقد نظرت عيون كثيرة الى ضوء نار تحترق على تل مشرف (يفاع)،ووضع النار على تل مشرف حتى تراه الناس فتأتي إليه فيضيفها ويكرمها. هذه النار تشب لاثنين شعرا بالبرد (مقرورين)فهما يتدفءان بها(يصطليانها)،وهل تعرف من هم هذين الاثنين؟ هما الكرم (الندى) والملحق.

ومعنى البيت الثالث: أن هذا الرجل المحلق ترى كرمه وجوده يجري ويظهر في وجهه ويزيد وجههه زينا وجمالا كما السيف(الهندواني) إذ ترى لمعته تزيده رونقا وجمالا.فكرم المحلق في وجهه كلمعة السيف في متنه.

فهذا المحلق ليس كريم النفس ولو أنه اكرم الاعشى.

أما كريم النفس حقا فهو حاتم الطائي ومن لا يعرف حاتم الذي صار مضرب مثل لليوم ، ويقول لزوجته :

إِذا ما صَنَعتِ الزادِ فَاِلتَمِسي لَهُ

أَكيلاً فَإِنّي لَستُ آكِلَهُ وَحدي

أَخاً طارِقاً أَو جارَ بَيتٍ فَإِنَّني

أَخافُ مَذَمّاتِ الأَحاديثِ مِن بَعدي

ويقول ايضا بعد أن لامته زوجته على كثرة إنفاقه :

تَلومُ على إعطائيَ المالَ، ضِلّة ً       

إذا ضَنّ بالمالِ البَخيلُ وصَرّدا

ضنَّ: بَخِلَ ، صرّدَ:قلَّلَ

يقول:زوجتي تلومني وقد ضلّ رأيها وقارنت بين من ينفق المال ومن يبخل به

تقولُ: ألا أمْسِكْ عليكَ، فإنّني       

أرى المال، عند المُمسِكينَ، معبَّدا

ذَريني وحالي، إنّ مالَكِ وافِرٌ       

وكل امرئٍ جارٍ على ما تعودا

أرِيني جَواداً ماتَ هَزْلاً، لَعَلّني

أرَى ما تَرَينَ، أوْ بَخيلاً مُخَلَّدا

يقول : زوجتي تقول لي أن أمسك مالي عندما رات مال الممسكين والبخلاء كثير فقلت لها دعيني (ذريني) فإني لا اقصّر عليك ومالك وافر، ثم يقول لها هل رأيت جوادا كريما مات بسبب الفقر او الجوع؟ ام هل رأيت بخيلا طال عمره فأصبح خالدا في الارض؟ ..

وأُلفى ، لأعراضِ العشيرة ، حافظاً

وحَقِّهِمُ، حتى أكونَ المُسَوَّدا

يقولون لي: أهلكت مالك، فاقتصد

وما كنتُ، لولا ما تقولونَ، سيّدا

وهذين البيت من اروع الكلام فهو يقول: الناس تعرفني بأني حافظٌ لاعراض العشيرة وحقوقها وانا كذلك حتى يسوّدني الناس عليهم وأصبح سيدهم، وهؤلاء الناس يقولون لي اهلكت مالك فاقتصد، ولو كنت اتبعت نصيحتهم ولم أنفق مالي لما صرت اصلا سيدا.

وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال(الكريم قريب من الجنة قريب من الله قريب من الناس)

ولقد ذم الله عز وجل البخلاء بقوله تعالى(ويل لكل همزه لمزة*الذي جمع مالا وعدّدَه*يحسب أن مالهُ أخلده)

والكرم والسخاء ستر للعيوب  والعرب كانت تمقت البخل وتبغضه ويقول الامام الشافعي:

إذا كثرت ذنوبكَ في البرايا

وسَرَّكَ أن يكونَ لها غطاءُ

تستّرْ بالسخاءِ فكُلُّ عيبٍ

كما قيلَ يُغطّيهِ السخاءُ

ومن جميل الابيات أيضا قول الحطيئة في أحد بني شمّاس مادحا :

تزورُ امرأً  يُعطي  على  الحمد  مالَهُ

ومن يُعطِ أثمانَ المحامد يُحمَدِ

مفيدٌ ومِتلافٌ إذا ما سألتهُ

تهلَّلَ واهتزَّ اهتزازَ المهندِ

متى تأتهِ تعشُو إلى ضوءِ نارهِ

تجد خير نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ

ويقال أنه عندما سمع عمر بن الخطاب هذه الأبيات قال: “كذب والله بل تلك نار موسى” وفعلا فإن خير نار أوقدت على وجه الأرض هي نار موسى عليه السلام المذكورة في القرآن وموقدها هو الله عز وجل.

وتنتقل بكم  للعصر العباسي لأنخذ أفخم بيت مدح قيل في كرم شخص ما على الاطلاق .. وهو قول أبي تمام في مدح المعتصم :

تَعــودَ بسطَ الكفِّ حـتى لو اْنّهُ

ثـــناها لقَبضٍ لم تُطِعهُ أنامِلُهْ

فلو لم يَكُن في كفّهِ غَيرُ روحِــهِ

لجــادَ بِها , فـليتَّقِ اللهَ سـائِلُهْ

يقول ابو تمام : من شدة كرم هذا الرجل فإن يده لا يمكن إغلاقها وأصابعه لا تطيعه من كثر ما تعودت على البسط، ولو لم يكن في كفه غير روحه لأعطاها، لذلك اتقوا الله بهذا الرجل يامن تسألونه الاعطيات.

ومن أكرم العرب أيضا معن بن زائدة الذي قيلت فيه الاشعار وريت عنه القصص حتى يقول الشاعر الحسين بن مطير في رثاء معن بن زائدة متذكرا كرمه وجوده :

فيا قبرَ معن أَنْت أول حُفْرَةٍ …

من الأَرْض خُطَّت للسماحة مضجعا

وَيَا قبرَ معن كَيفَ واريت جودهُ ؟

وَقد كَانَ مِنْهُ الْبرُّ وَالْبَحْر مُترَعا

يقول الشاعر : يا قبر معن أنت اول حفرة في الأرض تم خطيطها لتصبح مرقدا للسماحة والسماحة من مرادفات الكرم، ثم يسأل الشاعر القبر فيقول له كيف استطعت أن تحتضن وتحتوي  جود وكرم معن ؟ كيف استطعت ذلك يا قبر بحجمك الصغير؟ وجود معن كان يملء البر والبحر وكلمة مترعا تعني مملوء.

فَتى عِيْش فِي معروفه بعد مَوته

كَمَا كَانَ بعد السَّيْل مجْرَاه مرتِعا

وَلما مضى معنٌ مضى الْجُود فانقضى

وَأصْبح عِرنينُ المكارم أجدعا

يقول الشاعر: معنٌ هذا الفتى الذي لازالت الناس تعيش على معروفه وكرمه وفضله بعد موته  كالسيل..فالسيل  تراه بعد انقضاءه تنبت بعده النباتات ويصبح مكان تتوارده الحيوانات وتشرب من بقايا ماءه وتاكل من فضله والمرتع هو الموضع الذي ترتع فيه الماشية فتاكل وترعى.ثم يقول الشاعر لكن عندما مات معن انتهى الجود وانقضى وأصبح انف المكارم مجدوعاً بموته.

وننتقل لآخر قصيدة في الموضوع وهي من اجمل قصائد الشعر العربي على الاطلاق واجمل قصيدة في الكرم على الخصوص وهي قصيدة تحكي قصة .. وقائل القصيدة هو الشاعر الحُطيئة ولاندري في من قالها ولكن القصيدة أصبحت من عيون الشعر العربي :

وطاوي ثلاثٍ عاصبِ البطن ِمرمل ِ

ببيداءَ لم يعرفْ بها ساكنٌ رسما

طاوى ثلاث :جائع ثلاث ليال ، عاصب البطن : شدّ على بطنه حزاما من الجوع ، مرمل :شديد الفقر ، رسما :أثر للعمران

– رب رجل فقير لم يذق طعم الأكل منذ ثلاث ليالٍ وقد عصب بطنه بحزام من شدة الجوع يعيش بصحراء لا تجد فيها أثراً للحياة

أخي جفوةٍ فيـه من الإنس وحشة ٌ

يرى البؤسَ فيها من شراسته نُعْمى

أخي جفوة : ذو خشونة وغِلظة،الشراسة : الشدة ( الرجلٌ الشرس : العسير الشديد )

إنّه ذو غلظة ترك معاشرة الناس حتى بات يرى عيشة الفقر والحرمان نعمة مقارنة مع ما يعانيه من وحدة ووحشة

وأفـردَ في شعب عـجوزاً إزاءَها

ثلاثـة ُأشـبـاح ٍتخالهـم بَهْما

ثلاثة أشباح : يعني أولاده ، البهم : صغار الغنم ، الشِعب : الوادي ، الطريق إلى الجبل

وقد ترك في وادٍ منعزل زوجته العجوز ومعها ثلاثة صبية كأنهم صغار الغنم تحسبهم أشباحا من شدة الجوع .

 حُفاةً عُراةً مــا اغتَذَوا خـبـزَ مَــلــةٍ

ولا عــرفوا للبُرِّ مُذ خُــلِقوا طــعمـا

خبز الملة :قرص يخبز في الرماد الحار، البرّ : القمح

هؤلاء الأطفال بؤساء ليس في أقدامهم أحذية ولا على جلودهم ألبسة وما ذاقوا أبداً طعم الخبز

رأى شـبحاً وسـْـط الـظلام فـراعـه

فـلمّــا بـدا ضيفــاً تشمّر واهتــمَّــا

راعه : أخافه ، تشمّر: استعد ، اهتمّا :أصابه الهمّ والحزن

وفي ليلة مظلمة رأى الأبُ شبحاً فأثار في نفسه الخوف والريبة ولكن عندما تبّين أنه ضيف بدأ يبحث عمّا يطعمه واعتراه الهم والحزن لأنه لا يملك ما يقدمه لضيفه

وقال : هيا ربّــاه ضــيفٌ ولا قِــرىً !

بحقك لا تحــرمـه تا الليــلة اللحْما

ناجى الرجل ربه وتوسّل إليه قائلا : اللهم هذا ضيفي وليس عندي طعام له فأدعوك بعظمتك ألاّ تحرمه هذه الليله من أكل اللحم

وقــال ابـــنهُ لــمّــا رآه بــحـَـيــرةٍ

أيــا أبــتِ اذبــحنــي ويسِّر له طعما

ولا تعتــذر بالعـُـدم علَّ الذي طرا

يــظنُّ لــنــا مــالا ً فــيوسعـَنــا ذمّــا

العُدم : الفقر .

يقول :وعندما شاهد الابن أباه مضّطرباً أقبل إليه يطلب منه أن يذبحه ويقدم لحمه طعاماً للضيف وقال لأبيه لا تعتذر من الضيف بالفقر فلربما ظننا من أهل اليسر ونمنع عنه الطعام فيهجونا بالبخل بين القبائل

فروّى قليـلاً ثمّ أحْجَمَ بُرهَـةً

وإنْ هو لم يذبـح فتاهُ وقد همّـا

روّى : تمهّل ، أحجم : امتنع ، برهة : فترة قليلة من الزّمن ، همَّ : عَزمَ

تمهل الرجل وأخذ يفكر بالعرض الذي قدمه الابن ثمّ امتنع عن سماعه بعدما كاد أن يذبحه .

فبينا هُما عنّتْ على البعد عانة ٌ

قد انتظمت من خلف مِسحَلِهَا نظمَا

عنّت : ظهرت ، عانة : القطيع من حمر الوحش ، المِسحل : الكبير من الحمر الذي يتقدمها أي : (قائدها ، فحلها )

وبينما هما على تلك الحالة بدا من بعيد قطيع من البقر الوحشي يسير خلف قائده كأنه عقد منتظم

عِـطـاشاً تريد الماءَ فانسابَ نَحوَهَا

علـــى أنّــه مـنهــا إلى دمهــا أظــما

وما اروع وأبدع صياغة هذا البيت فهو يقول:تقدم نحو القطيع الذي يقصد عين الماء ببطء وهدوء حتى لا تنفر فهو متعطش للحمها أكثر من تعطش الحُمر الوحشية للماء ولكن رغم هذا انظر لاخلاق هذا الفتى فهو لم يفزعها ولم يعكر عليها شرب الماء،ولم يفزعها .انظر للبيت التالي لتتضح الصورة جيدا ثم اعد قراءة الابيات بدون الوقوف على الشرح.

فأمهلها حتى تروّت عِطــاشها

فأرسل فيها من كنـانته سهــما

فخرّت نَحوصٌ ذاتُ جحشٍ سمينة ٌ

قد اكتنزت لحمـاً وقد طبّقت شحــما

الكنانة :الجعبة التي توضع فيها السهام.

نحوص :الأتان الوحشيّة ( البقرة الوحشيّة ) ، اكتنزت وطبقت : امتلأت، الجحش : صغير الحمار

المعنى: فأمهلها حتى شربت وملأت بطونها بالماء ، ثمّ أخرج من جعبته سهما وأطلقه نحو القطيع .

فسقطت أتان سمينة عظيمة الجسم امتلأ جسدها باللحم

 فيا بشـرَه إذ جرّها نحوَ أهلِه

ويا بشـرَهم لمّا رأوْا كلمَـها يَدمى

فباتوا كراماً قد قضَوا حقَّ ضيفهم

وما غَرِمُوا غُرمًا وقد غـَـنِموا غُنْمَا

وبات أبوهم مِن بشـــاشته أباً

لضـيفهم والأمُ من بشــرها أمّا

والكلْمُ بتسكين اللام هو الجرح.

يقول :ما أعظم فرحته وهو يسوقها إلى عائلته وما أكثر سرورهم عندما شاهدوا الطريدة بين يديه تنزف دماً ، فأمسى الأب من شدة سروره كأنه أبٌ للضيف وأمست الأمّ في حنانها ورعايتها كأنّها أمٌّ له

وهذا قليل من كثير والا فاشعار الكرم لا حصر لها في الأدب العربي .

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


Posted

in

by

Tags: