روي عن النبي أنه قال (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا)

والبيان جزء لا يتجزء من الشعر .. بل قد تجد أن بعض الأمور والحوادث تم تبيينها في الشعر بشكل أفضل من تبيينها في النثر ..

واليوم نقتطف بعض الأبيات من الادب العربي ..وكلها تعتبر حكما أو أصبحت أمثالا ..

ومن يعرف زهير بن أبي سلمى يعرف أن معلقته مليئة بالحكم .. وهو من طبقة فحول الشعراء الأولى ..

لذلك سندع ابياته لآخر الموضوع .. ونبدأ بالمتنبي الذي لا تكاد تخلو قصيدة من قصائده على بيت او بيتين في الحكمة وبعض قصائده ممتلئة بالحكم ..

فمن أجمل أبيات الحكمة لديه وأقربها إلى قلبي

لولا المشقّةُ ساد الناسُ كُلُّهُمُ

الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قتّالُ

يقول لو كانت السيادة والزعامة سهلة بدون مشقة لكان الاناس كلهم سادات وكبراء في أقوامهم ولكن الأمر ليس كذلك .. لأن الناس تخشى الفقر والموت فلا تشق على نفسها بالكرم والإقدام في القتال لان الكرم الشديد قد يُفقرك والإقدام في المعارك قد يقتلك.

ومن أشهر أبيات حكمته

على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ

وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ

وهذا البيت فيه تعزية ومواساة لكل من كان طموحه عظيم وهدفه كبير وواجهته مصاعب وشدائد .. نقول له لا بأس لم تأت هذه الصعاب والشدائد الا لأنك كفؤ لها ولأن حلمك أسمى وعزيمتك أكبر.

والمتنبي يعزز معنى البيت السابق ببيت آخر من قصيدة أخرى فيقول :

وإذا كانت النفوس كباراً

تعبَتْ في مُرادِها الأجسامُ

يقول صاحب النفس العظيمة يُفني جسمه ويتعبهُ في سبيل خدمة ماتريد هذه النفس العظيمة من سؤدد وشرف وأهداف نبيلة.

ولديه بعض الحكم التي قد لا تتفق معه على معناها ولكنه قالها من واقع تجاربه في الحياة .فإليك قوله:

والظلمُ من شيمِ النفوس فإن تجِد

ذا عفّةٍ فلعلّةٍ لا يـــــــــــــــــظلمُ

يقول فطرة الإنسان مجبولة على أن يظلم من هم أضعف منه ومن هو قادر عليهم .. فمهما كنت عادلا لابد أن تقع في ظلم من سلمكَ رقبته ومن لا تخشى شره .. وإن وجدتَ شخصا لا يظلم إطلاقا وأبدأ ولا يقع في ظلم من هم أضعف منه ومن هو مطمئن لجانبهم فاعلم أن هناك علّة منعتهُ من الظلم وليس لأنه عادل أو أنه عفيف عن الظلم بل هناك علة مخفية لا نعلمها.

ولك الرأي أن تقرر إن كان كلامه صحيحا أم خاطئا..

والمتنبي اخذ هذه النظرة عن الحياة من تجاربه فهو يقول :

ومن عرفَ الأيامَ معرفتي بها

وبالناس روّى رمحهُ غيرَ راحمِ

ومن الحلمِ أن تستعملَ الجهل دونهُ

إذا اتَّسَعَتْ بالحلمِ طُرقُ المظالمِ

يقول : من عرف الدنيا والناس مثلما عرفت أنا لن يكون رحيما وسيأخذ حقه منهم بالقوة بدون رحمة ولا شفقة. ثم يقول “من الحلمِ أن تستعملَ الجهل دونهُ” .. والجهل في اللغة هو نقيض الحلم والتأنّي ورجاحة العقل ..فالجهل يعني الغضب والتسرع في الخطأ وإيذاء الآخر .. فالمتنبي يقول : أصلا من رزانة العقل والحكمة والحلم أن تستخدم الجهل والعنفوان بدلا الحلم عندما تصبح حكمتك ورزانتك سببا وطريقا لكي تصبح مظلوما حينها يصبح الجهل والطيش حكمة.

ومن حكمه الشهيرة ايضا والتي تظهر فلسفة الشاعر:

ذو العقلِ يشقى في النعيم بعقلهِ

وأخو الشقاوةِ في الجهالةِ ينعَمُ

والجهالة هنا تعني قلة العقل والإدراك..ولك أن تترجم البيت في ذهنك بالطريقة التي تمتعك ..فهذا البيت أقرب إلى أن يكون متاهة فلسفية أو حلقة دائرية بدايتها كنهايتها ..تأمل البيت وفكّر فيه..

ويقول ايضا :

ومن نَكدِ الدنيا على الحُرِّ أن يرى

عدواً لهُ ما مِن صداقَتِهِ بُدُّ

يقول ابو الطيب : قد يبتليك الله بأخ أو جار أو مدير عمل لا مهرب ولا مفك منه .. ويكون معاديا لك ولكنك لا تجد بدّا من صداقته لأن الظروف تحتم عليك ذلك ..

فما رأيك ايها القارئ بوجهة نظر المتنبي هذه ؟ ..

ويحضر الآن لذهني بدون سابق انذار قول الطغرائي العميد مؤيد الدين :

أعلّلُ النفسَ بالآمال أرقُبُهَا       

ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأمَلِ

وهو من أعمق وأجود الأبيات الشعرية..يقول لولا الأمل لكانت الحياة ضيقة.فنفسي تجد من هموم الدنيا ما يدعوها للموت والرحيل ولكني اصبّرها واواعدها بآمال ننتظرها يتغير فيها الحال والوضع للافضل..ولولا فسحة الأمل لما كانت الحياة تُطاق. ولكن يبقى الامل يعزي النفس ويصبّرها ويقول لها غدا اجمل.

ومن أشهر قصائد الحكم القصيدة الزينبية التي يُرجح أن قائلها هو صالح بن عبدالقدوس (سُميت الزينبية لأنه يقول في مطلعها صرمت حبالك بعد وصلك زينبُ) يقول من ضمنها :

لا خير في ودِّ امرءٍ متملقٍٍ

حلو اللسان وقلبه يتلهّبُ

يلقاكَ يحلفُ أنَّهُ بك واثقٌ

وإِذا توارى عنك فهو العَقْرَبُ

يُعطيك من طرف اللسان حلاوة ً

وَيَرُوغُ مِنْكَ كما يَروغُ الثَّعْلَبُ

والفَقْرُ شَيْنٌ للرِّجالِ فإِنَّهُ

يُزرى به الشهمُ الأديب الأنسبُ

وَاحْرَصْ على حِفْظِ القُلُوْبِ مِنَ الأَذَى

فرجوعها بعد التنافر يصعبُ

إِنّ القُلوبَ إذا تنافر ودُّها

شِبْهُ الزُجَاجَة ِ كسْرُها لا يُشْعَبُ

و إذا أصابك في زمانك شدة ٌ    

و أصابك الخطب الكريه الأصعبُ

فَادْعُ لِرَبِّكَ إِنَّهُ أَدْنَى لِمَنْ

يدعوه من حبل الوريد وأقربُ

واحْذَرْ مِنَ المَظْلُومِ سَهْما صائبا  ً

و اعلم بأن دعاءهُ لا يُحجبُ

ومن قصائد الحكمة ايضا لاميّة ابن الوردي التي يقول من ضمنها :

اعتزل ذِكرَ الأغاني والغَزَلْ

وقُلِ الفَصْلَ وجانبْ مَـنْ هَزَلْ

واتَّـقِ اللهَ فتـقوى الله مـا

جاورتْ قلبَ امريءٍ إلا وَصَلْ

أطلبُ العِلمَ ولا تكسَلْ فمـا

أبعـدَ الخيرَ على أهـلِ الكَسَلْ

واهـجرِ النَّومَ وحصِّلهُ فمنْ

يعرفِ المطلوبَ يـحقرْ ما بَذَلْ

لا تـقلْ قـد ذهبتْ أربابُهُ

كلُّ من سارَ على الدَّربِ وصلْ

اطـرحِ الدنيا فمنْ عاداتها

تخفِضُ العاليْ وتُعلي مَنْ سَفَلْ

كمْ شجاعٍ لم ينلْ فيها المنى

وجبـانٍ نـالَ غاياتِ الأملْ

فاتـركِ الحيلةَ فيها واتَّكِلْ

إنـما الحيلةُ فـي تركِ الحِيَلْ

بين تبذيرٍ وبُخلٍ رُتبةٌ

وكِـلا هـذيـنِ إنْ زادَ قَتَـلْ

وتغافل عـن أمورٍ إنـه

لـم يـفُزْ بالحمدِ إلا من غَفَلْ

ولعل أحسن مافي قصيدة ابن الوردي قوله

“إنما الحيلة في ترك الحيل”.

وابيات صالح ابن عبد القدوس وابن الوردي ابيات جميلة ومعانيها جيدة ولكن جودة صياغتها كشعر تعتبر ضعيفة مقارنة بالمتنبي ومن سبقه ..ولا مجال للمقارنة بين ابياتهم وما سيأتي من جودة وصياغة وعبقرية في ابيات زهير بن ابي سلمى التي ستكون اخر ابيات في الموضوع.

ومن أبيات الحكمة مقطوعة لكُثيّر عزّة حيث  أمر الخليفة عبدالملك بن مروان أن يتم البحث عنه و الإتيان به إليه و لو من باطن الأرض كى يسمع ما يقول ، و نجح الحراس و الخدم في العثور عليه ، و بينما كان عبد الملك بن مروان جالسا ، فإذا بخادمه يدخل عليه ديوان القصر يستأذنه في دخول كُــثَــيّــر عزة عليه ، فأذن له بالدخول واستعد هو وجلسائه لرؤيته وسماع ما عنده ، فلمــا دخل حدقوا جميعا إليه واستغربوه ، فقد وقف أمامهم رجل تزدريه العين ، حقير المنظر ، صغير البنية ، قصير القامة ، دميم الوجه ، ذو ملابس رثة ، فتعجبوا و لسان حال كل واحد منهم يقول : هل هذا هو كُثَيَّـر عـزَّة ، الشاعر الذي ملئ صيته الآفاق ؟؟!! فكسر كُثــيّــر حاجز الصمت و قال : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ، طاب مساءك يا أمير المؤمنين ، فما كان من عبد الملك بن مروان إلا أن رد فقال : تسمع بالمُعيدي خيرٌ من أن تراه !! و هو ما صار مثلا عند العرب بعد ذلك ، فقال كُثَيَّـر : مهلاً يا أمير المؤمنين ، فإنما الرجل بأصغريه ، قلبهِ ولسانه ، فإن نطق نطق ببيان ، و إن قاتل قاتل بجنان ، فأنا الذي أقول:

 ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريه

 و في أثوابه أسدٌ هصورُ

و يعجبكَ الطريرُ فتبتليه   

فيُخلفُ ظنك الرجل الطريرُ     (الطرير: ذو المنظر والهيئة الحسنة.)

 لقد عَظُمَ البَعيرُ بغيرِ لُبٍّ

فلم يستغنِ بالعِظَمِ البعيرُ

ضِعافُ الأسدِ أكثرها زئيراً

وأصرمها اللواتي لا تزيرُ

فاستشعر الخليفة عبد الملك بن مروان الحرج و تسرعه فيما قال ، فاعتذر من كُثــير عزة و قربه إليه و رفع مجلسه.

ومن أبيات الحكمة قول طرفة بن العبد في معلقته :

وظُلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً

على المَرءِ من وقعِ الحسامِ المهنّدِ

ستُبدي لكَ الأيامُ ما كُنتَ جاهِلاً

ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تُزَوّدِ

والحكم في الشعر العربي كثيرة جدا ولا يمكن حصرها ولكن نحاول أن نمر مرور الكرام على هذا الجانب الواسع جدا من الادب ..

ونصل لاحد الفحول الثلاثة زهير بن ابي سلمى والابيات الواردة هنا من معلّقته الشهيرة التي مطلعها

أمِن أمِّ أوفى دِمنَةٌ لم تَكلَّمِ ..

يقول هذا الشاعر الجاهلي العبقري الخطير :

وَمَن لا يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَةٍ

يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ

يصانع : يُداري ويحسن التصرف.المنسم:ما يُستعمل في رجل الحصان أو الناقة كما يستعمل البشر الحذاء.

يقول الشاعر : من ليس لديه حسن الخُلُق ويتكبّر ولا داري أحدا ستذلّه الناس وتغلبه وتقهره وربما تقتله،كالذي يُضرّس بالأنياب أو يتم الدعس عليه بالمنسم،لذلك لابد من أن تُأخذ بعض الأمور باللين والحلم والعقل ولكن ليس دائما حتى زهير يأكد أنه ليس دائما عليك أن تكون دوبلوماسيا بقوله :

ومن لا يَذُد عن حوضهِ بسلاحهِ

يُهدَّمْ ومن لا يظلمِ الناسَ يُظلَمِ

وقد ترى البيت هذا مناقضا للبيت السابق ولكن زهير يريدك أن تجمع بين المعنيين فلا تغلو وتبالغ في أحدهما.. والذود هو الكف والردع ..والحوض معروف ولكن المقصود به هنا عزة النفس والعرض والمال..

يقول زهير: بالرغم من كونك تداري الناس في أمور كثيرة لكن عليك ألا تترك نفسك عرضة للآخرين بل دافع عن عزتك بسلاحك واظلم من يقترب منها ويحاول هدمها.

وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ  

عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ

لاشك أن من لديه المال والقدرة ثم تجده لا يحسن لقومه ويبخل عليهم سيتم الاستغناء عنه وستراه مذموما ممقوتا بينهم.

وَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ

يَفِرهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتَمِ

والعرض هنا لا تعني العار أو نساء الدار بل تعني سيرة المرء وشرفه وذكره.

يقول زهير: من يفعل المعروف والخير والفضل ويجعل فعاله الحسنة تحمي وتذُبُّ وتدافع عن سيرته وشرفه(عرضه) يكون بهذا قد حفظ سيرته وشرفه وصانهما وإلا فالذي لا يتق الشتم ويفعل الفعال التي تعرضه للشتم لا شك أنه سيتم شتمه وذكر سيرته بسوء.

وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَها

وَإن يرقَ أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ

يقول : إن الذي يخاف طرق الموت (المنية) سيلتقي بها ولو ارتقى على طرق السماء بسلم للنجاة والهروب منها فالموت نازل بكل بشر لا محالة ..وما أحسن هذه الألفاظ وتوظيفها وما اجود هذه الحروف وترتيبها .. ويالها من قدرة على الصياغة والنظم لهذا الشاعر ..

ومن يجعَل المَعروفَ في غير أهلهِ

يكن حَمدُهُ ذمّاً عليه ويندمِ

يعني : الذي يفعل المعروف لقوم ليسوا أهلا للمعروف و لقوم لا يستحقون أن تفعل فيهم معروفا فسيكون حمده ذمّا عليه وسيندم لأنه بدل أن يجني الشكر والحمد والثناء سيجني الذم.

لسانُ الفتى نِصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ

فلم يبقَ إلا صورةُ اللحمِ والدمِ

ولو لم يكن في كل المعلقة الا هذا البيت لكفى .. ففعلا لسان الفتى نصف ونصف فؤاده .. وأما ما بقي فهو لحم وعظم ودم مثل بقية الدواب ولكن ما يميز هذا الرجل عن ذاك هو القلب واللسان. ومهما حاولنا شرح البيت نجد البيت الشعري بمفرده بدون شرح أعمق واقرب للقلب وايسر للفهم من اي كلام غيره.

وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ

وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ

يقول زهير : مهما حاول المرء إخفاء صفة أو طبع فيه سواء كان جيدا أو سيئا  وظن أن هذا الطبع او الصفة تخفى على الناس .. فالناس ستعلمها وتعرفها ولو لم يكن كلهم فبعضهم ..

وبهذا نكون انتهينا من هذا مرورنا البسيط على الحكم في الشعر العربي ..

اتمنى أن تكون ابيات زهير بن ابي سلمى وغيره من الشعراء قد لامست ذائقتكم وأطربتكم ..

والسلام عليكم ورحمة الله ..