الرثاء .. بين المهلهل والخنساء (ومضة)

بين رثاء الخنساء والمهلهل (ومضة)

وكلمة الرثاء تعني البكاء على الميت وعد محاسنه وأفضاله ..

ولاشك أن الكثيرين جعلوا قصيدة الخنساء “قذى بعينيك” هي القصيدة الأولى والمتربعة على عرش الرثاء لما فيها من حنين وحزن ,فبالله عليك تأمل قولها :

وما عَجُولٌ على بَوٍّ تُطيفُ بِهِ              لها حَنينانِ: إعْلانٌ وإسْرارُ

يوْماً بأوْجَدَ منّي يوْمَ فارَقني               صخرٌ وَللدَّهرِ احلاءٌ وَامرارُ

والعجول: الناقة المستعجلة في مجيئها وذهابها جزعا. البوّ: جلد ولد الناقة المنحور.

والمعنى: إنّ الناقة التي نحر ابنها تذهب وتجيئ حوله وتطوف عليه وخلال ذلك تصدر أصوات حزينة بعض صوتها مُرتفع وبعض صوتها منخفض لذلك قالت الخنساء “إعلان وإسرار” ..

و معنى كلام الخنساء

أرأيتم هذه الناقة الجزعة المحزونة التي تطوف حول ابنها وهي تحن اليه ؟ إنها لا تجد من الحزن مثلما أجد أنا على أخي صخر “يوما بأوجد مني”   ليست أكثر مني حزنا ووجدا وأسى على فراقي لصخر.

وقولها :

كأن دمعي لذكراهُ إذا خَطَرت … فيضٌ يسيلُ على الخدين مدرارُ

تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عَمَرَتْ         لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ

تقول : وما من عيني إذ تخطر لي ذكرى صخر إلا سيل دمع غزير على الخدين يغمرهما ولا ينفك عن ذلك.

وقولها ما عمرت: طالما عاشت. والرنين: الصياح عند البكاء. ومفتار: ضعيفة ومقصرة.

المعنى: سأظل أبكي صخرا ما حييت، وإنّ بي عليه عويلا وبكاء وحزنا مسموعا وأنا مقصرة تجاهه ولم أفِهِ حقه من الدموع والأسى

جلدٌ جميل المُحيّا كاملٌ ورعٌ … و للحروب غداةَ الرَوع مسعَارُ


حمّال ألويةٍ ، هباط أوديةٍ … شهّاد أنديةٍ ، للجيش جّرارُ


نحّارُ راغيةٍ ملجاءُ طاغيةٍ … فكّاك عانيةٍ للعظم جبّارُ

وهذا من أجود المدح وأعلاه ومن أفضل ما يذكر به ميت حتى يكادُ يشتهي الرجل أن يُقتل ويُقال فيه مثلما قالت الخنساء بأخيها صخر .. وكم من قصيدة رثاء جعلت الأحياء يحسدون الموتى على موتتهم فيتمنى الحي لو أنه مات وقيلت القصيدة فيه .

ولا شك أن قصيدة الخنساء هذه من عيون الشعر العربي خصوصا وقد حكم لها النابغة الذبيانني –وهو من هو – بأنها أشعر امرأة بعد أن سمع قصيدتها في سوق عكاظ .

ولكني وجدتُ الهلهل ابن ربيعة (الزير سالم) قد سبقها إلى بعض المعاني .. وهنا نذكر قصيدة المهلهمل

(أهاج قذاء عينك الادّكارُ).. التي رثى بها أخاه كليبا فقال :


أَهـــاجَ قَـــذاءَ عينكَ الإِذِّكـــــارُ

هُــــدُوّاً فــَالــدُمــوعُ لـَها اِنحِدارُ

وَصارَ اللَيلُ مُشتَمِلاً عَلَينا

كَأَنَّ اللَيلَ لَيسَ لَهُ نَهارُ

يبدأ الشاعر بمطلع يصوره لنا تصويرا حيا محسوسا بأن تذكر كليبا عاد كالقذى في عينه يمنعه المنام والراحة والسكون ، وما إن يقبل الليل حتى تسبل العيون الدموع الحزينة .
 
ويقول: كأن الليل لا يعقبه نهار وكأن العتمة لا تليها إشراقة.

وَأَبكي وَالنُجومُ مُطَلِّعاتٌ

كَأَن لَم تَحوِها عَنّي البِحارُ

يقول : أبكي ومازالت النجوم لا تريد أن تغرب في البحار وتسقط فيه, ولكن يبكي على من ؟؟؟


 
عَلى مَن لَو نُعيتُ وَكانَ حَيّاً

لَقادَ الخَيلَ يَحجُبُها الغُبارُ


على كليب الذي لو كان مكاني وجاءه خبر موتي لقاد الخيل المسرعة , من شدة إثارة الخيل للغبار انحجبت الرؤية عنها.


دَعَوتُكَ يا كُلَيبُ فَلَم تُجِبني

وَكَيفَ يُجيبُني البَلَدُ القِفارُ؟

أَجِبني يا كُلَيبُ خَلاكَ ذَمُّ

لَقَد فُجِعَت بِفارِسِها نِزارُ

القَفْر: المكان الخلاء من الناس، ونزار هو الجد الجامع لقبائل العرب فيقصد الزير أن موت كليب لم يفجع بني تغلب وحدهم ولا بني ربيعة بل شمل كل قبائل العرب


أَبَت عَينايَ بَعدَكَ أَن تَكُفّا

كَأَنَّ غَضا القَتادِ لَها شِفارُ

القتاد شجر له شَوْك أَمثالُ الإِبَر فيقول الزير : ترفض عيناي ترك البكاء ، فتسيل الدموع بلا توقف ، كأن رموش عيني شوك القتاد فهي متقرحة من البكاء المر.

أَرى طولَ الحَياةِ وَقَد تَوَلّى

كَما قَد يُسلَبُ الشَيءُ المُعارُ

وما أعمق تفكيره فهو يرى الحياة عبارة عن شيء مُستَعار , وهي كذلك , ولكن لماذا استخدم كلمة يسلب؟ والسلب لا يكون في المُستعار ولكن يكون فيما تملكه ؟

لأنك عندما تستعير شيئا لمدة طويلة تميل نفسك إلى تملّكه.


 
كَأنًّي إِذ نَعى النّاعي كُلَيباً

تَطايَرَ بَينَ جَنبَيَّ الشَرارُ


فَدُرتُ وَقَد عَشِي بَصَري عَلَيهِ

كَما دارَت بِشارِبِها العُقارُ

عشي بصري يعني عمي بصري والعقار الخمر ..

تخيل الصورة معي : عندما جاءه خبر موت كليب (كأني إذ نعى الناعي كليبا) تطاير الشرر من جنبيه واصبح يدور حول نفسه ويتخبّط واسودّت الدنيا امامه فهو كالاعمى المتخبّط كحالة من يدور رأسه ويترنح ويفقد الرؤية بسبب سكرة الخمر.

وعندما علم الزير بموت كليب كان بعيدا عنه فقوله “عشي بصري عليه” يعني على كليب

 سَأَلتُ الحَيَّ أَينَ دَفَنتُموهُ ؟؟

فَقالوا لي بِسَفحِ الحَيِّ دارُ

 فَسِرتُ إِلَيهِ مِن بَلَدي حَثيثاً

وَطارَ النَومُ وَاِمتَنَعَ القَرارُ


 
وَحادَت ناقَتي عَن ظِلِّ قَبرٍ

ثَوى فيهِ المَكارِمُ وَالفَخارُ

هنا كان الزير وصل لقبر كليب وكانت الشمس قد أشرقت والزير فوق ناقته ولكن ناقته عندما وصلت لقبر كليب حادت وتحاشت أن تطئ ظل القبر الذي اندفنت بداخله المكارم والمفاخر فلا مكارم بعد كليب ولا شيء يُفتخر فعله ,فناقة الزير لم تدعس ظل القبر الذي ثوت المكارم فيه.. وهذا من أروع الكلام وأجوده

وأكتفي بهذا القدر من هذه القصيدة ولو أنها قصيدة عبقرية عظيمة تستحق أن تنفرد بموضوع كامل لوحدها ..

ولكم أن تختاروا بين المهلهل والخنساء.. فكلاهما شاعر عبقري خطير ..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..


Posted

in

by