وهذا اللون من الشعر لم يكن دارجا في العصر الجاهلي بل كان أحدهم إذا فقد قريبا أو خسر حبيبا يتفنن في البكاء والنحيب عليه وقد قال الاصمعي أن العرب أكثر ما أجادت في الرثاء..

فنرى المهلهل (الزير سالم) يبكي كليباً كثيرا .. ونرى شعراء المعلقات يبكون على الأطلال .. وكذلك الخنساء التي بكت على أخيها صخر بقصائد مبكية يرق لها القلب.. ونراها بعد الإسلام خسرت أربعة أبناء لها فلم ترثهم ولم تبكهم كما بكت صخراً..وسنورد موضوعا بعينه عن أجود ماقالت العرب في الرثاء .. أما اليوم فنحن نتكلم عن الصبر وأروع ما جادت به قرائح الشعراء في معاني الصبر ..

ومن اللطائف أن نقارن بين قول امرء القيس ابن حجر وقول طرفة بن العبد وكلاهما شاعر جاهلي وكلاهما من أصحاب المعلقات ..

يقول امرء القيس :

وقوفا بها صحبي عليَّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمّلِ

ويقول طرفة:

وقوفا بها صحبي عليَّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلّدِ

ونرى الأدباء والنقاد فضلوا قول امرؤ القيس على قول طرفة لأن الصبر الجميل خير من الصبر مع الجلد كما قال الله في كتابه على لسان إسحاق عليه السلام (فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون) سورة يوسف الآية ١٨ ومن المعلوم أن اللفظ إذا ورد في القرآن فهو أفصح . وهذا ما قرره ابن خالاويه ايضا.

أروع ما قيل في الصبر :

يقول أبو العتاهية وهو سجين لدى هارون الرشيد :

هيَ الأيامُ والغِيَرُ
وأمرُ الله يُنتَظَرُ

أتيأس أن ترى فرجاً؟!
فأينَ اللهُ والقدرُ

وهي من أجمل أبيات أبي العتاهية ..

ويقول ابن أبي الدنيا :

عسى فرجٌ يكون عسى نعلّلُ نفسنا بعسى

فلا تجزع إذا حصّلت همّا يقطع النفسا

فأقربُ ما يكونُ المرءُ من فرجٍ إذا يئسا

ومن أجمل ما قيل في الصبر هو قول الأبيوردي :

تنكَّرَ لي دهري ولم يدرِ أنَّني
أَعِزُّ، وَأَحْداثُ الزَّمانِ تَهُونُ

فَظَلَّ يُريني الدهرُ كَيْفَ اعْتداؤهُ
وَبِتُّ أُرِيهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكونُ

وقال الأشعث بن قيس دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فوجدته قد أثر فيه صبره على العبادة الشديدة ليلا ونهارا فقلت يا أمير المؤمنين إلى كم تصبر على مكابدة هذه الشدة ؟ فما زادني إلا أن قال :

اصبر على مضضِ الأدلاج في السَّحَرِ
وفي الرَّواحِ إلى الطّاعات في البُكَـرِ

إنـي رأيـتُ وفـي الأيـام تجربـةٌ
للصّبـر عاقبـةٌ محمـودة الأثــرِ

وقـَلَّ مـن جَـدَّ فـي أمـرٍ يُؤَلِّمـُهُ
واستصحبَ الصبـر إلا فـاز بالظفـرِ

فحفظتها منه وألزمت نفسي الصبر في الأمور فوجدت بركة ذلك.

وقال نهشل :

ويومٍ كأنَّ المُصطَلينَ بِحَرِّهِ
وإن لم يكن نارً قيامٌ على الجمرِ

صبرنا لهُ صبراً جميلاً وإنّمَا
تُفَرّجُ أبوابُ الكريهةِ بالصبرِ

وهذا الشعر جيد المعنى واللفظ ..

وورد في ألف ليلة وليلة (الليلة 303) على لسان أبي محمد الكسلان:
“اضطجعت في مكاني من التعب، فبينما أنا مضطجع متفكر في أمري وإذا أنا بهاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه وهو يقول هذين البيتين:

دع المقادير تجري في أعنّتها
ولا تبيتنَّ إلا خالي الـبـالِ

ما بين طرفة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال”

لم يذكر الكتاب (مجهول المؤلف) من قائل البيتين.

ونختتم بأجمل الأبيات في هذا الموضوع وهي قول الإمام الشافعي :

دَعِ الأَيَّامَ تَفْعَل مَا تَشَاءُ
وطب نفساً إذا حكمَ القضاءُ

وَلا تَجْزَعْ لنازلة الليالي
فما لحوادثِ الدنيا بقاءُ

وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلداً
وشيمتكَ السماحة ُ والوفاءُ

ولا ترجُ السماحة ََ من بخيلٍ
فَما فِي النَّارِ لِلظْمآنِ مَاءُ

وَرِزْقُكَ لَيْسَ يُنْقِصُهُ التَأَنِّي
وليسَ يزيدُ في الرزقِ العناءُ

وَلا حُزْنٌ يَدُومُ وَلا سُرورٌ
ولا بؤسٌ عليكَ ولا رخاءُ

وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَايَا
فلا أرضٌ تقيهِ ولا سماءُ

وأرضُ الله واسعة ً ولكن
إذا نزلَ القضا ضاقَ الفضاءُ

دَعِ الأَيَّامَ تَغْدِرُ كُلَّ حِينٍ
فما يغني عن الموت الدواءُ

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..