وأبدع ما قيل في الليل هو قول امرء القيس ابن حجر وقول النابغة الذبياني وسنذكر أشعارهم بعد أن نوضح مكانة الليل لدى الشعراء .. فيصور الشعراء أن ليل العاشقين والمهمومين طويل وكانوا يسعون لتقصير لياليهم بوصل الأحبة ومن ذلك قول طرفة بن العبد في معلقته :

ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى ….

إلى قوله

وتقصيرُ يومِ الدَّجنِ والدَّجنُ مُعجِبٌ

ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الطِّرَافِ الْمُعَمَّدِ

قصَّرتُ الشيء: جعلته قصيرًا. الدجن: إلباس الغيم آفاق السماء. البهكنة: المرأة الحسنة الخلق السمينة الناعمة. الْمُعَمَّد: المرفوع بالعمد.

يقول طرفة : والخصلة الثالثة أني أقصر يوم الغيم بالتمتع بامرأة ناعمة حسنة الخلق تحت بيت مرفوع بالعمد، وجعل الخصلة الثالثة استمتاعه بحبائبه، وشرط تقصير اليوم؛ لأن أوقات اللهو والطرب أقصر الأوقات؛ ومنه قول الشاعر؛ [الوافر] :
شهور ينقضين وما شعرنا … بأنصاف لهن ولا سرار

وقوله: والدَّجنُ معجب أي: يعجب الإنسان.

ومن عصر صدر الإسلام اخترنا هذه الأبيات للشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه ، بعنوان تطاولَ بالجمانِ ليلي فلمْ تكنْ :

تطاولَ بالجمّانِ ليلي فلمْ تكن
تهمُّ هوادي نجمهِ أن تصوبا
**
أبيتُ أراعيها كأني موكلٌ
بها لا أُريدُ النّوْمَ حَتّى تَغَيّبَا
**
إذا غارَ منها كوكبٌ بعدَ كوكبٍ
تُرَاقِبُ عَيْني آخِرَ اللَّيلِ كَوْكبا
**
غَوَائرُ تَتْرَى من نجُومٍ تَخَالُها
مَعَ الصّبْحِ تَتْلُوها زَوَاحِفَ لُغبا

في الأبيات السابقة نجد الشاعر حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ يشكو ـ كغيره من الشعراء طول الليل ـ ويقول أنه يرعى نجومه وكأنه موكلٌ بها ومكلف بذلك ، فلا ينوم حتى تتوارى النجوم وتختفي عن الأنظار ، وقد رمز الشاعر إلى طول الليل ببطء اختفاء نجومه ، وذلك كناية عن طول الليل .

وكأن حسان استوحى فكرة هذه الابيات من قول النابغة “وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ”

وهناك قصة طريفة حصلت بين حسان والنابغة عندما كان حسان صغيرا وهي :

انه بعد أن سمع النابغة شعر الخنساء قال لها أنت أشعر ذات ثديين ولولا أني قلت لأبي بصير (الاعشى) أنه أشعر الناس لكنت قلت ذلك لك ..والنابغة كان يحكم بين اشعار الشعراء في سوق عكاظ وهو من طبقة الفحول الشعراء الاولى مع امرؤ القيس وزهير .وكان حسان غلاما فقال للنابغة انا اشعر منك ومن جدك.. فقال النابغة لحسان يابني أنت لاتستطيع أن تقول :

فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلتُ أن المُنتأى عنكَ واسعُ

يدلل النابغة على أن سطوة الملك في الوصول اليه هي مثل سعة وانتشار الليل وقدرته في الوصول الى اية مكان في هذه الدنيا، والرأي الآخر هو ان الشاعر يصور سطوة الملك وبطشه التي هي إن وصلته فانه ستكون فيها نهايته.

فسكت حسان وعاد أدراجه.

ومن العصر الأموي نختار قول جرير بن عطية الخطفي:

قال جرير :

أطال هذا الليلُ لا يُجري كواكبه
أم ضل حتى حسبتُ النجمَ حيرانا

في هذه البيت يستفهم الشاعر الذي طال ليله ، ويتساءل هل طال الليل حتى أن الكواكب توقفت عن الحركة فلا تجري ومعها يطول ليله .

وقال بشار بن برد :

خليلي ما بال الدجى ليس يُبَرّحُ
وما لعمود الصبح لا يتوضحُ

أضل الطريق المستنير طريقه
أم الدهر ليلٌٌ كله ليس يبرحُُ

أنظر لقوله أم الدهر ليلٌٌ كله ليس يبرحُُ .. ما أحسن هذا الكلام..

الليل يبدو قصيراً بالنسبة للشاعر الذي يعيشه بين أحضان حبيبه ، فإن هذا الليل على العكس يكون طويلاً في ليالي النوى والأسر كحالة الشاعر أبي فراس الحمداني وهو من فرسان وشعراء العصر العباسي الذي كان يعاني من وجوده في سجون الروم فيقول :‏

وأسر أقاسيه‏ وليل نجومه
أرى كل شيء غيرهن يزول‏

تطول بي الساعات وهي قصيرة‏
وفي كل دهر لا يسرك طول‏

والآن نصل للختام لنذكر شعر ملوك الشعر في الليل وهما امرؤ القيس والنابغة ويقال أنه تشاجر “الوليد بن عبد الملك “و”مسلمة” أخوه حول شعر “امرئ القيس” و”النابغة الذبياني” في “وصف الليل” أيهما أجود .
فانشد “الوليد” قول “النابغة”

كِلِيني لهم يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ

وليلٍ أُقاسِيهِ بَطيءِ الكَواكِبِ

تَطاوَلَ حتى قُلتُ ليس بِمُنْقَضٍ

وليس الذي يَرعى النجومَ بآيِبِ

وصَدرٍ أَراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّهِ

تَضاعَفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانِبِ

يقول النابغة- الشاعر الجاهلي مخاطبًا ابنته أميمة: دعيني لهذا الهم المتعب ومقاساة الليل بطيء الكواكب- بسبب أرقي وهمومي؛ ولا تزيديني عذلاً!
جعل بطء الكواكب دليلاً على طول الليل، وكأنها لا تغرب، لأن في غروبها ينجلي هذا الليل، ويطلع النهار.
..
ومعنى “وليس الذي يرعى النجوم بآيب” الراعي ترك غنمه ولمّا يعد، أي أن الصبح ترك النجوم متشردة في الأفق ولم يأت، فالنجوم بقيت (الغنم ظلت ترعى)، وبالتالي فإن معنى بقاء النجوم= أنه لن يطلع النهار على الراوي الشاعر الأرِق بسبب كثرة همومه ومخاوفه، بل يستمر عليه الليل، ولذا قدّم للمعنى: “تطاول” (وفي رواية أخرى- تقاعس)، “حتى قلت ليس بمنقض”.

.وانشد “مسلمة” قول “امرئ القيس”

وليلٍ كموجِ البحرِ أَرْخَى سدولَهُ

عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي

فقلتُ لَهُ لما تَمَطَّى بِصُلبهِ

وأَرْدَفَ أَعجازاً وناءً بِكَلْكَلِ

أَلا أَيها الليلُ الطويلُ ألا انجلي

بصبحٍ وما الاصباحُ منكَ بأَمْثَلِ

فيالَكَ من ليلٍ كأَنَّ نجومه

بكلِّ مُغارِ الفتل شُدَّتْ بِيَذْبُلِ

.فضرب “الوليد “برجله طربا فقال “الشعبي” بانت القضية.يعني أن قول امرئ القيس هو الأجود. نعم هو الأجود فمن غيره ؟!!!

“ابن رشيق “في “عمدته” يقول “البيت الأول يغني عن الثاني .والثاني يغني عن الأول ومعناهما واحد.”
انظروا معي إلى البيت الثاني “
فقلت له لما تمطى بصلبه ………..وأردف أعجازا وناء بكلكل .
لتتبينوا براعة الشاعر في تحوير صورة “الليل” حيث أضفى عليها “أبعادا إنسانية” .جعل لليل “صلبا ” ومعناه مفهوم .وأعجازا “المآخير” مفردها “عجز”.و”كلكل” الصدر وجمعه “كلاكل “.وأسبغ عليه أفعالا أدمية فهو يتمطى ويردف وينوء .وطول الليل هنا ينبئ عن حزن الشاعر وتجرعه للآلام والخطوب .فالمغموم الحزين دائما يطول ليله ويقاسي فيه الشدائد والسهر .فتتعالى نداءات “امرئ القيس” متوسلة من هذا الليل أن ينكشف ويصبح ولو انه يعاني الهموم ذاتها في الإصباح .فالصبح والليل سيان وهذا ما نستشفه من قوله”…وما الإصباح عنك بأمثل”.فلا “حلكة الليل ” رفعت همه ولا “فلق الصبح” بدد حزنه.وإنما تمازج الألوان ساهم في تعميق “أزمة الشاعر” في نظري وإبرازها أكثر.
فليل امرئ القيس طويل هجم عليه كالحيوان المفترس، وطال هذا الليل حتى كأن نجومه كانت مشدودة إلى جبل، بأمراس مُحكمة الفتل، بمعنى أن الليل مثبت لا يتزحزح ولا ينتهي، وهذة كناية عن شدة أرقه وقلقه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..